ولدت بمدينة ,ليست كغيرها ,هادئة و مختبئة بين سفوح التلال, البشر طبيعيون, ظرفاء, و جد بسطاء, لكن من الطبيعي ان تسمع في فترات معينة , أخبار عن أحداث عنف دامي , و ذبح و قتال , فدماء من أعيش بينهم تبدو كأنها تغلي , و ان بدو هادئين الى حد بعيد , و ليست مدينتا فاضلة أكيد , فدور الدعارة كنا كلما أردنا أن نتهم أحدا بالرذيلة , نشير إلى سفح بالأعلى , كل البيوت فيه هي لمومسات , لكن مع ذالك بيوت ألمومسات بعيدة للغاية, و أزقة الفجار معروفة يتحاشها الكل , و مركز المدينة قبل مدة كان يطل على مناظر المزارع الرائعة , اليوم زحف العمران يسد ناضر الكل عنها , ليبقى الاسمنت الذي يسطر تاريخ المدينة منذ عهود الحماية الفرنسية , و لحظات الزمن الجميل , حيث كان يحكي أبي عن مشاهد التعايش و الانصهار الإنساني بين عرقيات العالم في تلك المدينة الهادئة و الصغيرة 


يحكي عن فرنسيين كثر استوطنوا مزارعها المدرارة و البهية , عن عشرات اليهود المغاربة, قبل فرارهم إلى إسرائيل, و يونانيين لا ادري لما قطعوا كل تلك المسافة نحو هذه المدينة, سويسريون و أوروبيون كثر و مواطنون من بلدان عربية كانوا حتى وقت قريب متعايشين في سلم حول صخرة المدينة التي سمية بأزرو و هي الصخرة بألأمازيغية و بين الماضي و الحاضر تغير الكثير , لم يعد الثلج يتساقط كما كان , يتساقط مرة واحدة في العام و كذالك المطر تضائل حجم التساقطات , أما القرميد الأحمر المتهالك على سطوح البنايات القديمة فيبدو كتوقيع يميزها عن غيرها , و تحافظ بعض البنايات الجديدة على نفس الصيغة ان لم تكن فيلا أكيد , فتلك المنازل الضخمة , تستورد من الخارج تصميمها, و الكداح من أبناء ألأحياء الفقيرة يكتفون بالتراب على السقف, لكن الجميل في كل ذالك أن المدينة بطبيعة خلابة و رائعة .

و أنا كنت محظوظا أن أكون ابنها , و أن تكون أمي , فقد ولدت فواحدة من لياليها الباردة في منتصف الشتاء , أواخر دجنبر , في مستشفى نظامي , لا بد أن أجواء تلك كانت باردة 

ترعرعت في حي السعادة قليل السعادة, مليء بالفوارق, فقراء مقطوعون بجوار البيوت الفاخرة, ليست فاخرة بالمعنى الحقيقي لكن مقارنتا ببيوت البعض, هي قصور, مدرسة عبد الكريم الخطابي الابتدائية, كانت مدرستي أتردد عليها كل يوم, قبلها كان روض الأطفال...لازالت اذكر المشاهد هناك, طريقي الصباحية إلى المدرسة و الروض قبلها , في الصباح البارد و لازلت اذكر مشاهد الصيف الشاعري , اذكر بطولات الطفولة , و أحلامي الصغيرة حينها, وقفتي تحت الثلج, و برد أصابعي الرطبة من تكويره , لازلت اذكر صدقاتي الأولى, و الأجواء داخل فصل الدراسة , أشياء صغيرة حينها و متواضعة كانت تفرحني بشدة, مجتهد تارة و كسول تارة, لكن لا أرسب أبدا , و طريق البيت بعد يوم المدرسة , أمشيه كله و أنا منتش بهرمون الفرح مع الرفاق , زملاء القسم الأول, كانت ملعبا شاسع, كانت رحلة مشوقة, نتناقل أخبار النقط, أخبار الآخرين , نكت الأطفال , قصصنا الساذجة, و البريئة

بجوار الحقل بالقرب من المسبح البلدي , كانت الصخرة تبدو واضحة من تلك الطريق , أمر بها يوميا, تاج حديدي يزين قمتها , و قصص عديدة سمعتها عن ذالك التاج, و عن البيوت العريقة في الحي, بعضها يقولون مسكون, كنا نضل نراقبها ننتظر مشهدا مريب و نحن نراقب , يروون حكايات كنت أصدقها بعقلي ألطفولي حينها, بل أتشوق لسماع قصص الرعب , و أحداث تكسر روتين المدينة الهادئة 

إحدى عشر سنة من أجمل لحظات طفولتي عشتها هناك, حتى جاء يوم و لظروف عائلية سنغادر المدينة , منتقلين للعيش بالشمال, في ألأول ظننت أن الأمر أفضل, لكن في ألحظات التي تركتها خلفي , أدركت حبها اطل من زجاج السيارة, لامحا خلفي الحي و البيت الذي ترعرعت فيه, عشت فيه الحلو و المر, اتركه اليوم خلفي , و لن أعود للعيش فيه, مشاعر في طفل غير مدرك, لكن في تلك اللحظة انتابني شعور نضج و حسرة على , المدينة , مسقط رأسي و موطن طفولتي الرائع,أودعها للمرة الأخير كمقيم , و في المرات القادمة سأكون مجرد زائر, و حرام أن أنسى جمال ذكرياتي في حضنك, لكن هي الحيات سننسى مهما أحببنا, لن يضل إلا التذكار و لن أنسى تذكارك حبيبتي

محمد وحيدة


اضف تعليق

مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ

أحدث أقدم